تاريخ الجاسوسية
تعد الجاسوسية مهنة من أقدم المهن التي مارسها الإنسان داخل مجتمعات البشرية المنظمة منذ فجر الخليقة .. وقد مثلت ممارستها بالنسبة له ضرورة ملحة تدفعه إليها غريزته الفطرية للحصول على المعرفة ومحاولة استقراء المجهول وكشف اسراره التي قد تشكل خطراً يترصد به في المستقبل .. ولذلك تنوعت طرق التجسس ووسائله بدءاً من الاعتماد على الحواس المجردة , والحيل البدائية , والتقديرات التخمينية , والانتهاء بالثورة التكنولوجية في ميدان الاتصالات والمعلومات .. وعلى مر العصور ظهر ملايين من الجواسيس , لكن قلة منهم هم الذين استطاعوا أن يحفروا أسماءهم في ذاكرة التاريخ , بما تمتعوا من سمات شخصية فريدة أهلتهم لأن يلعبوا أدواراً بالغة التأثير في حياة العديد من الأمم والشعوب .. وهنا في هذا القسم سنستعرض لكم أحداث لم يعرفها أكثركم من قبل .. والتي ستمضون في مغامراتها المثيرة والممتعة عبر دهاليزها الغامضة , لتتعرفوا على أدق التفاصيل والاسرار في حياة أشهر الجواسيس والخونة من خلال العمليات التي قاموا بها ..
أول عملية تجسس في التاريخ - مخابرات الفراعنة
مارس الإنسان التجسس منذ فجر الخليقة .. استخدمه في الاستدلال على أماكن الصيد الوفير , والثمر الكثير , والماء الغزير , والمأوى الأمين , الذي يحميه من عوادي الطبيعة والوحوش والبشر , وتختلف شدة ممارسة التجسس بين مجتمع وآخر حسب نوع الأعراف والتقاليد , والعادات السائدة , فنراه على سبيل المثال سمة ثابتة عند اليابانيين , حتى ان الجار يتجسس على جاره بلا حرج , فالتجسس جزء من حياتهم العادية داخل وخارج بلادهم , كما ان الشعب الياباني يؤمن بأن العمل في مجال المخابرات خدمة نبيلة , في حين أن معظم شعوب العالم تعاف هذه المهنة , التي لا غنى عنها في الدولة المعاصرة , حتى تقوم
بمسئولياتها . فلا يكفي أن تكون الدولة كاملة الاستعداد للحرب في وقت
السلم , بل لابد لها من معلومات سريعة كافية لتحمي نفسها , وتحقق
أهدافها في المعترك الدولي .
لقد أصبح جهاز المخابرات هو الضمان الاساسي للاستقلال الوطني , كما أن
غياب جهاز مخابرات قوي يمنى القوات العسكرية بالفشل في الحصول على
إنذار سريع , كما أن اختراق الجواسيس لصفوف العدو يسهل هزيمته .
ولعل هذه الغاية هي التي أوعزت إلى الملك ( تحتمس الثالث ) فرعون مصر
بتنظيم أول جهاز منظم للمخابرات عرفه العالم .
طال حصار جيش ( تحتمس الثالث ) لمدينة ( يافا ) ولم تستسلم !
عبثا حاول فتح ثغرة في الأسوار .. وخطرت له فكرة إدخال فرقة من جنده
إلى المدينة المحاصرة , يشيعون فيها الفوضى والارتباك , ويفتحون
مايمكنهم من أبواب .. لكن كيف يدخل جنده ؟؟
اهتدى إلى فكرة عجيبة , شرحها لأحد ضباطه واسمه ( توت ) , فأعد 200
جندي داخل أكياس الدقيق , وشحنها على ظهر سفينة اتجهت بالجند وقائدهم
إلى ميناء ( يافا ) التي حاصرتها الجيوش المصرية , وهناك تمكنوا من
دخول المدينة وتسليمها إلى المحاصرين .. وبدأ منذ ذلك الوقت تنظيم
إدارات المخابرات في مصر والعالم كله .
ويذكر المؤرخون أن سجلات قدماء المصريين تشير إلى قيامهم بأعمال عظيمة
في مجال المخابرات , لكنها تعرضت للضعف في بعض العهود , كما حدث في عهد
( منفتاح ) وإلا لما حدث رحيل اليهود من مصر في غفلة من فرعون .
وتجدر الإشارة إلى أن ( تحتمس الثالث ) غير فخور بأنه رائد الجاسوسية ,
فكان يشعر دائماً بقدر من الضعة في التجسس والتلصص ولو على الأعداء ,
وكأنه كان يعتبره ترصداً في الظلام أو طعناً في الظهر , ولو كان ضد
الأعداء , مما جعله يسجل بخط هيروغليفي واضح على جدران المعابد والآثار
التي تركها – كل أعماله , من بناء المدن , ومخازن الغلال للشعب ,
وحروبه , أما إنشاء المخابرات فقد أمر بكتابته بخط ثانوي , وأخفاه تحت
اسم ( العلم السري ) مفضلاً أن يذكره التاريخ بمنجزاته العمرانية
والحربية والإدارية , وما أداه من أجل رفاهية شعبه , دون الإشارة إلى
براعته في وضع أسس الجاسوسية
يهوذا الإسخريوطي
استتر عيسى – عليه السلام – وحواريوه في البستان ليمضوا فيه الليل - وفجأة شق السكون صوت أقدام وقعقة أسلحة , وظهرت مجموعة من الرجال شاهرين سيوفهم .. ووقفوا على بعد خطوات .. وتقدم ( يهوذا الاسخريوطي ) من السيد المسيح , عانقه , وقبله قبلة الرياء المسمومة والتي لم تكن سوى الإشارة المتفق عليها بين ( يهوذا ) والجند , للإرشاد إلى شخص المسيح ..
ترى ماالذي دفع ( يهوذا ) إلى ارتكاب أبشع خيانة عرفها التاريخ ؟؟ ...
كرس ( عيسى ) – عليه السلام – كل جهده لدعوة الناس إلى الفضيلة , والسعي إلى رد اليهود عن ضلالتهم , وإلى اتباع شريعة ( موسى ) السمحة , التي حرفوها , ونهاهم عن تركيز الاهتمام في جمع المال , وكانوا قد حضوا الفقراء والمحتاجين على تقديم مايملكون من نذر يسير إلى صندوق الهيكل , ليتدفق الذهب إلى خزائنهم .
وكان من اليهود طائفة أنكرت القيامة , واستبعدوا الحساب , وكذبوا الثواب والعقاب , ومنهم طائفة أخرى انغمست في الملذات والشهوات .
لم يترك ( عيسى ) – عليه السلام – سبيلا لهدايتهم إلا سلكه , لينتشلهم من وهدة الضلال .
وشعر كهنة اليهود بخطر انفضاح أسرارهم وزوال دولتهم , فثارت ثائرتهم , وقلبوا علية ولاة الروم , وصوروه لرجال السياسة مؤلبا للجموع , مثيراً للفتن , منافساً للحكام .
وتحالف الكهنة والساسة ضده .. وشوا بالمسيح عند ( بلاطس النبطي ) الحاكم الروماني . رموه بالسحر , واستطاع ( كيافاس ) كبير الكهنة اليهود إقناع الحاكم بأن انتشار دعوة[/size] ( عيسى ) سوف يؤدي إلى زوال حكمه وتقويض سلطانه.
ونعتوه بأنه كافر بدينهم , وأجمع الكل على التخلص منه .
بثوا من حوله العيون لرصد تحركاته والإيقاع به ثم قتله . وبذلوا الوعود بالأموال والأماني عن الناس , حتى لايثير قتله ثورة . ومما يؤسف له أن يستجيب لغوايتهم ( يهوذا الإسخريوطي ) أحد حوارييه الاثنى عشر ... دلهم عليه وتقدم الجند نحوه ليقبضوا عليه لكن قدرة الله تجلت فأنجاه من كيد الكائدين .
أخفاه سبحانه وتعالى عن أعين الناظرين , وأوقع أبصارهم على رجل شديد الشبه بالمسيح .. انقضوا على الرجل الشبيه بوحشية , فانعقد لسانه من الخوف والفزع ولم يستطع الكلام .. وصلبوه فوق جبل الزيتون .. ولم يكن ذلك الرجل المجهول سوى ( يهوذا ) , الجاسوس الخائن ..
ولكن ما الذي دفع ( يهوذا ) إلى ارتكاب هذه الخيانة التاريخية ؟؟
يعتقد البعض أنه تجسس ووشى بمعلمه من أجل المكافأة المرصودة رغم تفاهتها .. ومقدارها ثلاثون قصعة فضية .. ويرى البعض الآخر أن إرادة الله جعلت من ( يهوذا ) عبرة لعل الناس به يتعظون ويحذرون.
المخابرات في صدر الإسلام
ازدادت حاجة المسلمين إلى الاستخبار منذ خرج النبي ( محمد صلي الله عليه وسلم ) من مكة مهاجراً إلى المدينة يرافقه صاحبه ( أبو بكر الصديق ) وبعدها حدثت عدة عمليات .. منها :
أخبار أيام الهجرة الأولى : في الطريق إلى المدينة كمنا في غار حراء ثلاثة أيام . وكان ( عبد الله بن أبي بكر ) يحمل لهما أخبار أحوال المسلمين والكفار في مكة أولاً بأول .
سرية ( عبد الله بن جحش ) : في السنة الثانية للهجرة , كلف النبي ( صلي الله عليه وسلم ) ( عبد الله بن جحش ) , برصد تحركات قريش , ومعرفة أخبارهم إذا يروى أن رسول الله دفع إلى ( ابن جحش ) كتاباً أمره ألا يفتحه إلا بعد مسيرة يومين , وينفذ ما فيه .
ولما فتح الكتاب في حينه , قرأ نصه : " إذا نظرت في كتابي هذا , فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف , فترصد بها قريشا , وتعلم لنا من أخبارهم " .
أعلن ( عبد الله بن جحش ) محتوى الكتاب على رفاقه , وساروا نحو غايتهم السامية في مهمتهم الاستطلاعية لقوات المشركين , والتقوا بثلاثة تخلفوا عن قافلة لقريش حتى يحصلوا على معلومات عن قوات المسلمين , فاشتبك معهم ( عبد الله بن جحش ) ورجاله , وقتل أحدهم , واقتاد الآخرين إلى النبي ( صلي الله عليه وسلم ) يستجوبهم .
عيون علي أبي سفيان : في غزوة بدر الكبرى , خرج ( صلى الله عليه وسلم ) من المدينة , وسار مع أصحابه حتى اقتربوا من ( الصفراء ) , وبعث من يأتيه بأخبار ( أبي سفيان بن حرب ) , وأخبرته العيون أن قريشاً سارت إلي ( أبي سفيان ) ليمنعوا إبله وتجارته حتى لا تقع في أيدي المسلمين .
وفي غزوة بدر أيضاً , أرسل النبي اثنين من المجاهدين للحصول على معلومات عن قوات المشركين , فوجد أحدهما غلامين لقريش يستقيان من بئر بدر , فأحضرهما إلى الرسول الكريم , وسألهما عن عدد الجمال التي ينحرونها للجيش , فأجابا بأنهم ينحرون يوماً تسعاً ويوماً عشراً .. ومن ذلك أدرك ( عليه الصلاة والسلام ) أن عدد مقاتلي المشركين يتراوح بين 900 - 1000 , لأن عادة العرب أن يخصصوا بعيرا لكل مائة رجل .
علي بن أبي طالب في مهمة : عملية التموية التي قام بها ( علي بن أبي طالب ) - كرم الله وجهه - لم تكن عملية المخابرات الأولى ولا هي الأخيرة , إذ أن النبي عليه الصلاة والسلام أمره بعد موقعة أحد , أن يقتفي أثر الكفار ويستطلع نواياهم , فوجد أنهم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل , فعرف أنهم عائدون إلى مكة , بعد أن مثلوا بكثير من قتلى المسلمين , جدعت نساؤهم الأنوف , وقطعن الآذان , واتخذن منها قلائد .. وبقرت ( هند ) بنت عتبة بطن ( حمزة ) عم رسول الله .
وأمر رسول الله بتغطية جثمان ( حمزة ) ببرده , ثم صلي عليه وعلى القتلى 72 صلاة , وأمر بدفنهم .
حيلة نعيم بن مسعود : علم النبي أن قريشاً عبأت جيوشها و ( بني غطفان ) , وانشغلت بمحاولة استمالة قبيلتي ( بني قريظة ) و ( بني أشجع ) , للتحالف معها والحنث بعهدهما للنبي , توطئة لمهاجمة المسلمين في المدينة .. بادر النبي فأمر بحفر خندق حول يثرب , كان الأول من نوعه , وكان مفاجأه أذهلت الكفار وعوقتهم عن مهاجمة المدينة .
كما جعلتهم صيداً سهلاً لسهام المسلمين , وتحقق النصر للمسلمين , خصوصاً وأن أمل قريش في استمالة ( غطفان ) و ( بني اشجع ) إلى جانبهم قد خاب بفضل ( نعيم بن مسعود ) .. فماذا فعل ؟؟
( نعيم بن مسعود ) .. من وجهاء بني غطفان .. أسلم سرا ولم يشهر اسلامه بين قومه .. ذهب إلى النبي محمد وأكد له خبر محاولة قريش وبني غطفان حض ( بني قريظة ) و ( بني اشجع ) على خيانة المسلمين والنكوص بعهدهم , وقال ( نعيم ) إنه طوع أمر رسول الله , فكلفه الرسول بإفساد مؤامرتهم بالحيلة إذا استطاع .
ذهب ( نعيم ) إلى ( بني قريظة ) أعزل من أي سلاح .. إلا سلاح المكر والدهاء , فأوقع بينهم وبين قريش وغطفان , زرع في نفوسهم الشك والارتياب , وحذرهم من أنهم سوف يتخلون عنهم حين تدور الدوائر , بعد أن يكونوا قد خسروا حلف المسلمين وحسن جوارهم , وتأكيداً لصدق رأيه نصحهم بأن يطلبوا من قريش وغطفان رهناً من أشرافهم , يظلون بأيديهم حتى يضمنوا صدقهم واستمرار نصرتهم .
تركهم ( نعيم ) بعد أن أقنعهم بحيلته , وذهب إلى قريش وغطفان , وأخبرهم أن بني قريظة يضمرون لهم شراً , وأنهم رافضون للحلف المعروض عليهم , راغبون في استمرار تحالفهم مع المسلمين , وقد أرسلوا إلى النبي يؤكدون وفاءهم بالعهد , واستعدادهم لأخذ رجال من أشراف قريش وغطفان وتقديمهم ليضرب المسلمون أعناقهم .
أوفدت قريش وغطفان ( عكرمة بن أبي جهل ) في رهط منهم إلى ( بني قريظة ) يستنفرهم للقتال , فامتنعوا بحجة أنهم لا يقاتلون يوم السبت , واشترطوا إعطاءهم رهناً من رجالهم يحتفظ بهم ( بنو قريظة ) ضماناً لعدم التخلي عن العهد إذا اشتدت المحنة .. ورفضت قريش وغطفان شرط الرهن .. واقتنعت كل الأطراف بصدق ( نعيم بن مسعود ) , ودب التخاذل في صفوف الأحزاب , ثم كانت مفاجأة الخندق , وتحقق نصر المسلمين .
ومما يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمد في غزواته وغاراته على القوافل المكية على المعلومات التي كان يزوده بها أعوانه في مكة , بينما لم يكن للكفار من يزودهم بأخبار المسلمين والأنصار في المدينة .
وكان النبي صلي الله عليه وسلم يوصي المسلمين بكتمان أسرارهم , لعلهم يصيبون العدو على غير استعداد , وينتصرون دون سفك دماء أو إزهاق أرواح , كما حدث قبيل فتح مكة , إذ صدر عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أمر كريم " أن يحفظ المسلمون أسرارهم , ويضنوا بمخبآت ضمائرهم , لعلهم يصيبون قريشاً على غير استعداد , ويدخلون مكة من غير كيد أو عناد .. فلا يسفك في البلد الحرام دماً , ولا يزهق روحاً , ولا يثير حرباً , ولا يذكى ضرام عداء "
تقرير بشر الخزاعي : ومن نماذج تقارير رجال مخابرات جيش النبي صلي الله عليه وسلم قول ( بشر الخزاعي ) لرسول الله صلي الله عليه وسلم :
" لقد دلفت إلى قريش أتسقط أسرارها , وأتعرف أخبارها , وما راعني إلا أن خبر مسيرك قد ترامى إليهم , وحديث رؤياك قد هبط عليهم , ولا أدري كيف وقع عليهم الخبر , ولا كيف استنشقوا حديث الرؤيا .. إنهم يا رسول الله خرجوا ومعهم النياق بأولادها , ولبسوا جلود النمور , وعاهدوا أنفسهم ألا تدخل عليهم مكة أبداً .
وهذا ( خالد بن الوليد ) وهو من يعدونه بمهمتهم , وفارس حلبتهم , قد خرج يستقبلك بخيله , ولعله الآن في ( كراع الغميم ) .
<HR SIZE=1>